ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى» (يوئيل 2: 28)
انه يوئيل نبي التوبة والصوم والصلاة الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد ورأى الناس وقد تمرغوا في حمأة الآثام، فنادى عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور منذرا ومحذرا إياهم من الاستسلام للمعاصي والعاقبة الوخيمة التي يتوقعها لهم من جراء ذلك، إذ أن الخطية كانت قد خرجت سافرة وإن الخطاة تمرغوا بالآثام بدون حياء، وكما يقول الرسول بولس عن مثل هؤلاء «الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم»( في 19:3 ) وسمعنا يوئيل ينادي بالتوبة قائلاً «ولكن الآن يقول الرب ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنّوح مزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم .. قدسوا صوما ونادوا باعتكاف» (يوئيل 2: 12 ـ 13 ـ 15) وقد استحق النبي يوئيل أن يعلن له الله ما سيكون في مستقبل الأيام عندما يتم الصلح بين الله والإنسان بالمسيح المنتظر فادي البشرية فقال على لسان الرب «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما ويرى شبابكم رؤى وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء اسكب روحي في تلك الأيام» (يوئيل 2: 28 و 29). هذا الروح ولئن ظهرت مفاعيله للناس في العهد القديم ولكنه ظهر جلياً في العهد الجديد بكل صفاته وخاصياته وانتشرت أعماله في الأرض كلها، إنه الروح القدس الاقنوم الثالث من الثالوث الأقدس الذي عندما نصفه بأنه مساو للآب والابن في الجوهر والذات والطبع والأزلية والقدرة والسلطان إنما نعني أن الروح القدس والآب والابن جوهر واحد، هذا ما تسلمناه من آبائنا القديسين ورسل الرب يسوع الأطهار، وقد أعلن المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية عام (381 ) عقيدة الكنيسة المسيحية منذ ابتداء وجودها بألوهية الروح القدس قائلاً: «ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي الكل المنبثق من الآب ومع الآب والابن يسجد له ويمجد الناطق في الأنبياء» وضم المجمع هذه العبارة إلى قانون الايمان النيقاوي الذي نتلوه في القداس الإلهي وقبل ختام صلواتنا صباح مساء وفي كل آن.
أجل لقد رأينا الروح القدس في العهد القديم يرف على وجه المياه، ورأيناه يرشد الناس الذين يحل عليهم إلى طريق الحياة بل أيضاً يعلن كلمة الله بين الناس عندما كان يحل على الأنبياء والمرسلين إذ هو معطي الحياة وهو المدبر والمعلم ، وعلى عهد موسى عندما أراد الله أن يخفف أعباء مشقات الإدارة عن كاهل موسى فقال الرب له اجمع إليّ سبعين رجلا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم انهم شيوخ الشعب وعرفاؤه وأقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيقفوا معك فانزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك واضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمل أنت وحدك ... ففعل موسى هكذا فلما حلّ الروح عليهم تنبأوا ولكنهم لم يزيدوا وبقي رجلان في المحلة اسم الواحد الداد واسم الآخر ميداد وحل عليهما الروح أيضاً وكانا من المكتوبين لكنهما لم يخرجا إلى الخيمة فتنبآا في المحلة ولما أخبر أحد الغلمان موسى بذلك، قال له يشوع بن نون يا سيدي موسى اردعهما، فأجابه موسى: يا ليت شعب الرب كانوا أنبياء اذا جعل الرب روحه عليهم ( عد 11 : 16و17و24-29 ) ونعتبر ما قاله موسى نبوة على ما جرى في مثل هذا اليوم الذي حلّ فيه الروح القدس على رسل الرب وتلاميذه، وعلى سائر الرجال والنساء الذين كانوا مجتمعين معهم في العلية بنفس واحدة، بدون تمييز. إنها لنعمة عظيمة ينالها الإنسان الذي يحل عليه روح الله فإذا لم يكن الإنسان مملوءا من روح الله تعرض ذلك الإنسان إلى خطر هيمنة روح إبليس النجس عليه، حيث يجد المكان «مكنوساً مزينا»(لو 11: 24). لقد منح الله الإنسان الذي جبله من تراب الأرض روحا حياّ عندما نفخ في انفه نسمة الحياة فصار الإنسان نفساً حيّة، ولذلك نقول أن الله خلق الإنسان على صورته كشبهه (تك 1: 26 و 5: 1) وهذه الروح تعتبر حلقة الوصل بين الله الذي هو روح محض وبين الإنسان الذي هو جسد وروح، لأن الله روح ولا يمكن أن يناجيه إلا الروح على حدّ تعبير الرب يسوع القائل: «الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 24) فإذا استمرت روح المؤمن منسجمة مع الله يحل الروح القدس على هذا الإنسان المؤمن، ولكن عندما يشك الإنسان بمصداقية أوامر الله ووصاياه ويسمع لإبليس عدو البشر وعدو الله، حينذاك يغادر الروح القدس ذلك الإنسان، الذي يهوي إلى درك المعصية، كما جرى لأبوينا الأولين آدم وحواء. والمؤمن يدرك ذلك جيدا . فعندما أخطأ داود مثلاً ارتعب جداً إذ صار يتوقع أن يغادره الروح القدس، فارتعب وهو يتذكر يوم كان فتى صغيراً يعزف على قيثارته ليهدّئ روع الملك شاول الذي كان يتعذب من الروح النجس إذ أن روح الله كان قد غادر شاول الملك. وان روح إبليس كان قد سيطر عليه وعذّبه، لذلك ارتعب داود عندما أخطأ لئلا يحدث له ما حدث لشاول وطلب إلى الله قائلاً: «وروحك القدوس لا تنزعه مني»(مز 51: 11). فإذا غادر الروح القدس الإنسان المؤمن سيطرت عليه روح إبليس، لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى أن نكون دائماً في حال النعمة، أي في حال توبة نصوح، وكما يوصينا النبي يوئيل أن نمزق قلوبنا لا ثيابنا وأن نقدس صوماً، وننادي باعتكاف ليكون روح الله ثابتا فينا .
أمّا في العهد الجديد فقد ظهر الروح القدس بكل مفاعيله في سر التجسد، فهو الذي طهّر ونقّى العذراء مريم من الخطية عندما حل عليها وقدّسها لتكون أهلا ليحل نار اللاهوت في أحشائها، وهكذا تجسّد ابن الله الوحيد من الروح القدس ومن مريم العذراء، كما نصّ قانون الايمان النيقاوي. كما أن الروح القدس ظهر بشبه حمامة استقرت على هامة الرب يسوع على أثر عماده في نهر الأردن من يوحنا المعمدان. وكان يوحنا هذا قد امتلأ من الروح القدس وهو جنين. فأهّله الروح أن يشعر بوجود الرب يسوع الإله المتجسّد وهو جنين في بطن أمه العذراء مريم، فارتكض يوحنا في بطن أمه كما قالت أمه اليصابات فرحاً باستقباله الرب يسوع. أجل إن الروح القدس هو روح الحق، فعندما يحلّ على الإنسان يرشده إلى الحق، وهو طاهر ونقي وقدوس ويحلّ في القديسين. لقد وعد الرب يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء، أن يرسل إليهم الروح القدس، معزياً وشفيعاً ومعلماً ومرشداً ومقدساً، وأمرهم الرب أن يمكثوا في أورشليم المدينة لينتظروا القوة من العلاء وهذه القوة هي الروح القدس، الأقنوم الثالث، من الثالوث الأقدس وهذه العقيدة السمحة تتضح من قول الرب يسوع لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 19).
ويذكر لنا البشير لوقا في سفر أعمال الرسل كيف أن الرسل كانوا مجتمعين في البيت وكان اليهود في ذلك اليوم يحتفلون بأحد أعيادهم الكبرى، ويسمونه عيد العنصرة أي الاجتماع وعيد الباكورة، وعيد الخمسين لأنه يقع بعد خمسين يوما من عيد الفصح ، وكانوا يقدمون فيه للرب رغيفين من باكورة زروعهم شاكرين إياه تعالى على النعم التي يسبغها عليهم، وكانوا يعتقدون أن في ذلك اليوم خُلق آدم، وفيه أعطيت الشريعة لموسى، ولذلك كانوا يحتفلون فيه احتفالا عظيما ويأتون من أقاصي الأرض إلى المدينة المقدسة ليظهروا أمام الرب في هيكله، في ذلك اليوم بالذات كان التلاميذ مجتمعين في العلية بحسب أمر الرب ، كانوا أنقياء قديسين وقد نالوا بركة الرب يسوع الذي كان قد سامحهم على كل ما اقترفوه من ذنوب ضده، فقد أنكره بعضهم، وشكّ آخرون أول وهلة في حقيقة قيامته، ولكنهم تابوا. فظهر لهم الرب يسوع مرات عديدة مدة أربعين يوماً، وأطاعوا أمره بمكوثهم في أورشليم المدينة لينالوا قوة من العلاء وفيما كانوا مواظبين على الصلاة، صار بغتة صوت عظيم كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين فظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا . فلما صار هذا الصوت اجتمع جمع غفير من الناس إلى العلية حيث كان مصدر الصوت، ورأوا التلاميذ ومريم أم يسوع والنسوة وتعجبوا لان كل واحد منهم كان يسمعهم يتكلمون بلغته وكانوا قد جاءوا من كل أمة تحت السماء . ومما يلاحظ أن الألسنة النارية استقرت على كل واحد من رسل الرب وتلاميذه، وأتباعه من الرجال والنساء بدون تمييز أو تفضيل أحد على الآخر، فالروح القدس هو روح المساواة روح تلاشي التمييز العنصري فلا تمييز بين عبد وحرّ بين ذكر وأنثى كما يقول الرسول بولس «ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع»(غل 3 :28 ). اجل هذا هو يوم العنصرة الذي استجاب فيه الله صلاة النبي موسى الذي قال يا ليت شعب الرب كانوا أنبياء ( عد 11 : 29) وتنبأ الشعب كله يوم العنصرة، أما الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار الذين اختارهم الرب يسوع من بين الشعب وأنعم عليهم بموهبة الكهنوت ورئاسة الكهنوت، فلسموّ هذه الموهبة السماوية، كانوا قد تقدموا على الآخرين. وعندما اجتمع الناس حول العلية وظنوا أن أولئك الناس سكارى، وقف بطرس هامة الرسل مع الأحد عشر ورفع صوته وقال لهم إن هؤلاء ليسوا سكارى كما انتم تظنون لأنها الساعة الثالثة من النهار بل هذا ما قيل بيوئيل النبي: «يقول الله ويكون بعد ذلك أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما ويرى شبابكم رؤى»(اع 2 : 17) يكون بعد ذلك بعد أن تم الخلاص بالمسيح يسوع ربنا ، بعد أن نلنا الفداء بدمه الثمين ، بعد أن قام المسيح من بين الأموات وصالحنا مع أبيه وبررنا وطهرنا وقدسنا يكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى فذكرهم الرسول بطرس بهذه النبوة، وبكّتهم الروح القدس فنخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نفعل أيها الرجال الاخوة ؟ فقال لهم بطرس «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس»( أع 2: 28) وفي تلك الحادثة ظهرت مفاعيل الروح القدس في التلاميذ كافة، فهامة الرسل بطرس مثلاً الذي لخوفه، أنكر المسيح أمام جارية حقيرة صار بطلاً شجاعاً لم يهب أحداً فوبخ رؤساء اليهود على قتلهم المسيح. وبطرس نفسه الذي كان رجلاً بسيطاً صار بعد أن امتلأ من الروح القدس واعظاً ناجحاً لأن الروح القدس هو روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، (اش 11 : 2) هكذا امتلأ بطرس ورفاقه من الحكمة والمعرفة وصاروا خطباء قديرين وشهوداً للمسيح مملوءين شجاعة. ودعا بطرس اليهود بخطابه الشهير ليتوبوا قائلاً لهم «اخلصوا من هذا الجيل الملتوي» فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (أع 2: 40 و 41) لذلك عُدّ ذلك اليوم عيد ميلاد الكنيسة بوساطة الروح القدس وصار ذلك اليوم أيضاً للمؤمنين بالمسيح يوم تجديدهم إذ صاروا خليقة جديدة فقد ولدوا ثانية ولادة روحية من السماء. وإن الروح القدس الذي حلَّ على أتباع الرب في العلية، هو ذاته يحلّ على سائر المؤمنين به والمعتمدين على اسمه على أثر خروجهم من جرن المعمودية ومسحهم بزيت الميرون المقدس. كما أن الشريعة التي أعطاها الرب لموسى في مثل ذلك اليوم قد تجددت أيضاً بشريعة المسيح الذي لم يعطها مكتوبة على لوحين من حجر بل كما قال الله على لسان النبي إرميا: «هذا هو العهد الذي اقطعه ... أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعباً»( ار 31 : 33) وقد ظهرت مفاعيل الروح القدس في العهد القديم أيضاً بالأعجوبة التي شاهدها بالرؤيا حزقيال النبي الذي أمره الله أن يتنبأ على العظام الرميم، فتحولت إلى أجساد بدون حياة. ثم أمر الرب النبي ليتنبأ عن الروح فهبت الروح عليهم ومنحتهم حياة فقاموا أحياء. وهذه الأعجوبة رمز لمفاعيل الروح القدس الذي بإمكانه أن يعطينا حياة في المسيح يسوع ربنا، كما أنه ثابت في الكنيسة المقدسة، يعتني بها ويختار رعاتها، ويرشدهم إلى الحق ويذكرهم بتعاليم الرب يسوع ويهديهم سواء السبيل ويعينهم على إدارة الكنيسة كما ورد في سفر أعمال الرسل أنه بينما كان التلاميذ يخدمون الرب ويصومون: «قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما»(أع 13: 3) والرسول بولس يوصي قسوس الكنيسة في أفسس قائلاً: «احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28). ويخاطب الروح القدس رعاة الكنيسة بوسائل عديدة، كما يذكر تاريخ كنيستنا المقدسة، إما بأحلام إلهية أو رؤى، وإما يلهمهم بتأثيره فيخاطب أرواحهم ويؤثر في أفكارهم.
ففي هذا اليوم أحبائي ونحن نحتفل بهذا العيد المقدس، لنسأل الله تعالى أن يؤهلنا لنستدعي الروح القدس ليبكّت ضمائرنا ويوقظها (أع 2: 37) وأن نتجاوب مع عمله في قلوبنا فنصحو ونستيقظ من سبات الخطية، ونتوب إليه توبة صادقة وأن نجعل أجسادنا هياكل نقية طاهرة للروح القدس الذي فينا (1كو 6: 19).
فلنطع الرب الإله، ولنقتد بالرسل الأطهار باجتماعهم في العلية، فلنجتمع نحن أيضاً في كنيسة الله بنفس واحدة مواظبين على الصلاة الحارة وليحل الروح القدس على كل واحد منا لنثبت في المسيح ونحيا فيه، مكملين وصية الرسول بولس القائل: «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد»( غل 5: 16) فلنبتعد عن كل ما يغضب الروح القدس طالبين من الرب مع النبي داود قائلين وروحك القدوس لا تنزعه منا آميـن.
|