احد السامري الصالح
مار اغناطيوس زكا الاول عيواص
بطريرك انطاكية وسائر المشرق
الرئيس الاعلى للكنيسة السريانية الارثوذكسية في العالم اجمع
عندما ندرس مثل السامري الصالح، نتخيّل أمامنا شاباً وُصف بأنه ناموسي، ولم يكن الناموسي لدى اليهود في عداد الكهنة، بل كان شخصاً ممّن يهتم بدراسة الناموس، ولا بدّ أن يجيد معرفة وصايا الله وفرائضه، فهو إنسان يعرف حتى عدد كل حرف من الحروف في كل سفر من أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، خاصةً أسفار التوراة ثم أسفار الأنبياء. وهو إنسان إليه توجّه الأسئلة فيما يخصُّ الشريعة والناموس ووصايا الآباء اليهود وتفاسيرهم ودقائق تعاليمهم.
هذا الناموسي جاء إلى يسوع ووجّه إليه سؤالاً بنيّةٍ سيئة، نستدلّ على ذلك من قول البشير لوقا الذي يقول عن هذا الشاب: «أنه قام ليجرِّب الرب يسوع»، أي قام يسأل يسوع بنيّة سيّئة لا طيبة، لكن ذلك السؤال بالذات كان ضرورياً جداً على كل إنسان مؤمن باللّه، مؤمن بحياة أبدية، ولكل إنسان يتوق أن يرث هذه الحياة، أن يسأله «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (لو10: 25).
الرب يسوع يعيد السؤال إلى الناموسي ويرجعه إليه فيقول له: ماذا تقرأ؟ ماذا في الناموس؟ فيختار هذا الناموسي آيتين من سفري اللاويين والتثنية عن المحبة، محبة اللّه من كل القلب وكل النفس وكل القدرة وكل الفكر. ومحبة القريب مثل النفس، فقال له يسوع: «بالصواب أجبت إفعل هذا فتحيا».
نتوقف عند وصيّة المحبة، فنراها أنها من أهم الوصايا المسيحية، المحبة هي زبدة الوصايا، من تمسَّك بالمحبة يكون قد أكمل وصايا الرب كافة، المحبة التي اعتبرتها الديانة المسيحية، أسمى صفة في الكون إذ قال فيها الرسول يوحنا: «اللّه محبة» (1يو4: 8) وطبعاً عكس المحبة البغضة التي هي وحدها تهلك الإنسان لأن «من أبغض أخاه فهو قاتل نفس» (1يو3: 15) وإن ربط المحبة، محبة اللّه بمحبة القريب تظهر أيضاً من تعليم الكتاب إنني «إن لم أحب قريبي الذي أراه، كيف أحب اللّه الذي لا أراه؟» (1يو4: 20)، بل أيضاً إن أحببت اللّه ستنعكس محبتي للّه لمن خلقه اللّه على شبهه كمثاله وهو الإنسان الذي هو قريب أخيه الإنسان.
مدح الرب يسوع هذا الناموسيّ، لكن الناموسي لم يكتفِ بقول الرب له: «إفعل هذا فتحيا». وفي معرض المماحكة وتجربة الرب يسوع يواصل كلامه فيسأل الرب قائلاً: «من هو قريبي؟» كان الأجدر به أن يسأل أنا قريب من؟ ولكن يقول من هو قريبي؟ إن قريب اليهودي بحسب تعليم آباء اليهود كان اليهودي فقط، وهنا علينا أن نميّز تعليم التوراة بالنسبة إلى تعاليم اللّه تعالى ووصاياه عن تفسير هذه التعاليم عند آباء اليهود، فاليهود كانوا متعصّبين جداً لجنسهم وقوميتهم، كانوا شعباً يبغض بقية الشعوب، ويسمونهم كلاباً، ولا يعترفون حتى بالسامريين الذين كانوا على مذهبهم اليهودي لأنهم اعتبروهم غرباء الجنس، فقريب اليهودي كان اليهودي فقط وبقية الناس يعتبرهم أعداء لليهودي، لذلك يسأل هذا الناموسي قائلاً: «من هو قريبي؟».
ويضرب لنا الرب يسوع مثلاً هو من أمثاله السامية السماوية، مثلاً يعتبر قطعة أدبية بديعة إلى جانب ما هو عليه من السمو الروحي التي تقدمه، فيبدأ المثل بالحديث عن رحلة إنسان ما كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا وينتهي المثل بمركز إسعاف طبي. يقول الرب: رجلٌ كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، والطريق بين أورشليم وأريحا هي مسافة عشرين ميلاً ولكنها كانت طريقاً خطرة منحدرة انحداراً حاداً وكلها صخور حادة على الجانبين، كانت تسمّى طريق الدم لأن هناك كان المجرمون يترصّدون المسافرين وينهبونهم، بل أيضاً إذا اقتضى الأمر يقتلونهم وهكذا يقترفون جرائم لا تحصى كل يوم، نحن لا نعرف ما هوية هذا الإنسان الذي ذكره الرب في المثل، وما كانت قوميته؟ ما كان دينه؟ الرب لا يريد أن يذكر ذلك، يريد أن يعرّفنا أن الإنسان هو إنسان مهما كانت اتجاهاته ومبادئه. هذا الإنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا في الطريق صادفه لصوص سلبوه أمواله، عرّوه وأخذوا ثيابه وضربوه وتركوه بين حيّ وميت، وصادف أن كاهناً كان نازلاً في تلك الطريق. كان في أريحا يقطن اثنا عشر ألف كاهنٍ، وعلى الكهنة أن يقوموا بخدمتهم الكهنوتية في الهيكل يومياً، تبعاً لنوبتهم فإذا كانت نوبة الكاهن في أي يوم كان عليه أن يسافر في تلك الطريق. جاء الكاهن في هذا المثل بعد أن قام بخدمته ربما ليوم أو أكثر وهو مرتاح الضمير وقد قدّم الذبائح والبخور، وربما قدّم أيضاً خبز التقدمة، وكان قد قام بهذه الطقوس الروتينية، وظنّ أنه قد أرضى اللّه بذلك، وفي طريقه من أورشليم إلى أريحا سمع تنهدات إنسان وصراخه وهو يتألم ويستنجد ولكن الكاهن لم يبالِ وكأنه لم يسمع شيئاً، له أذنان غير سامعتين، استمر في طريقه، ثم جاء اللاوي، واللاوي يساعد الكاهن في الخدمات الدينية ويعتبر كالشماس في الخدمة الطقسية في المسيحية حالياً، هذا أيضاً سمع وتقدم ونظر ولكنه أيضاً عبر. أخيراً يأتي إنسان يقول عنه الرب إنه سامري، والسامري يعتبر غريب الجنس لدى اليهود، والسامريون جاؤوا إلى تلك البلاد من بابل على أثر السبي البابلي إذ نبوخذ نصر سبى العديد من اليهود وأخذهم إلى بلاده وأرسل من سكان بابل من يستولي على تلك البلاد. فكان السامريون يعبدون أوثانهم وفي الوقت نفسه عبدوا إله إسرائيل وكانوا مبغضين جداً من اليهود، فإذا سقط ظل سامري صدفة على يهودي وهما يسيران في الطريق فعلى اليهودي أن يرجع إلى داره ويستحم لأنه تنجس من ظل السامري.
لكن في هذا المثل نرى أن هذا السامري عندما يسمع أنّات هذا الإنسان الساقط بين اللصوص، ومن قرائن الحدث نستدل على أن الساقط بين اللصوص كان يهودياً، لم يسأل السامري عن دينه، وعن جنسه أو قوميته بل نزل عن دابته وجاء وضمَّد جراحاته بزيت وخمر، ولعل أولئك الناس كانوا يستعملون الزيت والخمر لغذائهم كما كانوا يستعملون الخمر في تلك الأيام لتعقيم الجروح ثم الزيت لتليينها ولم يكن للسامري ما يعصُب به تلك الجروح فلعله أخذ غطاء الرأس الذي كانوا يستعملونه أيضاً في السفر خاصة وثوبه فمزقه وعصب جروح هذا الإنسان وحمله على دابته.
لم يفتكر في تلك الفترة أو تلك البرهة باللصوص الذين ربما كانوا يتربصون المسافر فقد يفاجئونه ويأتون إليه وَيسلبون أمواله ويحاولون قتله كما فعلوا مع هذا الذي تركوه بين حي وميت. إن عمل الرحمة أسمى جداً من أي عمل آخر وعمل الرحمة يعطي للإنسان شجاعة ويبعد عنه الخوف.
الكاهن لم يفتكر بهذا الإنسان وظنّ أنه قد أتمّ عمله في الهيكل ولم يعلم ولم يتذكر ما قاله الرب في الكتاب المقدس .أريد رحمة لا ذبيحة, (هو6: 6، مت9: 13)، وكذلك اللاوي لم يفكر بقول الكتاب المقدس. أما هذا الإنسان السامري فقد اعتنى بعدوه اليهودي وأخذه إلى فندق ودفع عنه دينارين وأوصى صاحب الفندق بأن يعتني به ومهما صرف فعندما يعود يوفيه.
يسأل الرب الناموسي قائلاً: «من صار قريباً للساقط بين اللصوص؟» لم يرد الناموسي أن يقول «ذلك السامري» بل قال الذي صنع معه الرحمة. فقال له الرب يسوع: «إذهب أنت أيضاً واصنع كذلك» لترث ملكوت اللّه الذي أعده الرب لنا، لا نستطيع أن نرثه بالإيمان فقط لأن الإيمان بدون أعمال ميت، حتى وإن دعينا مسيحيين فالاسم لا ينقذنا من العقاب يوم الدينونة عن كل عمل صالح لم نفعله. وفي الدينونة سنسمع الرب يقول لنا للصالحين أولاً: «لأني جُعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، عرياناً فكسيتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم إليّ» (مت25: 35 و36). ويقول للأشرار بعكس ذلك، هؤلاء يسألون متى رأيناك يا رب عرياناً أو جوعاناً أو عطشاناً؟ يقول: «الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» أما الآخرون فلأنهم لم يفعلوا بإخوتهم الصغار أعمال الرحمة يدانون. ويجب أن نعلم أننا لا ندان على ما فعلناه من شر فقط بل أيضاً على ما لم نفعله من خير، عندما يدعونا إنسان لا بلسانه بل بحاله أن نسعفه، نعضده، نساعده، فعلينا أن نقوم بذلك إن كنا نريد أن نرث ملكوت اللّه، هذه هي أعمال المحبة.
أيها الأحباء خدام مراكزنا الدينية إن العديد ممن ينتمي إلى المراكز الدينية يحتاج إلى رعاية، إلى عطف، إلى محبة، قد يكون شقيّاً في داره، شقيّاً مع رفاقه، قد يكون محتاجاً مادياً واجتماعياً وروحياً، فعلينا أن نفتكر به كأنه ساقط بين اللصوص، علينا أن لا نهاب أحداً ولا نخاف اللصوص لأن المسيح معنا هو السامري الصالح بالذات لذلك علينا أن نحمل هذا الإنسان الذي هو قريب لنا، أن نحمله في قلبنا وفكرنا ونفسنا محبين إياه إن كنا قد أحببنا المسيح وأن نخدمه. العديد ممن يحتاجون إلى الانتماء إلى المراكز الدينية هم في دورهم قابعون ويحتاجون إلى من يدعوهم، قد يكونون خجلين لأن حالتهم المادية لا تساعدهم إن كان هناك ممن يحتاج إلى معونة فعلى خدام مراكز التربية الدينية أن يأتوا بهؤلاء أيضاً إلى مراكز التربية. أنا أعرف أنّ في أحد مراكز التربية إنساناً قد شذّ وبشذوذه أضرّ الكنيسة فهلك وما زال يهلك الآخرين. علينا أن نشعر بمسؤوليتنا هذه أيضاً لأنني أؤكد لكم أن ذلك الكاهن الذي مرّ على الإنسان الساقط بين اللصوص نزل إلى بيته غير مبرّأ بل زاد على إثمه إثماً لأن روتينية الطقس لا تنفعه شيئاً أبداً ما لم يطبق شريعة اللّه عملياً ويرحم أخاه الإنسان وكذلك اللاوي ستكون خدمته باطلة ما لم يرحم قريبه.
أما السامري فإنه قد قدم ذبيحة طيبة بعمله عمل الرحمة هذا، بل رفع بخوراً إلى عرش إلهنا لأنه قد رحم أخاه الإنسان. آباؤنا في تفسيرهم الرمزي لهذا المثل يقولون أن جنسنا البشري كان ساقطاً بين اللصوص ـ الموت والخطية وإبليس ـ وأن الكهنة والشرائع من الآباء وتقديم الذبائح وموسى وهارون وبقية من جاء من الآباء والأنبياء والكهنة مرّوا على هذا الساقط بين اللصوص فلم يتمكنوا من أن يساعدوه حتى جاء غريب الجنس، المسيح يسوع ربنا الذي وإن كان لابساً جسدنا فهو ابن السماء، ابن اللّه الآب جاء هو بنفسه، هو الذي لبى نداء الساقط بين اللصوص وعصب وداوى وليّن وعقم جراحاتنا بدم قلبه وزيت رحمته وأخذنا إلى الفندق إلى كنيسته المقدسة دافعاً عنا دينارين سر جسده ودمه الأقدسين، هذا بتفسير الدينارين، وهو سيدفع عنا ويدفع دائماً لأنه يريدنا أن نكون معافين روحياً وجسدياً، ويوفي بمجيئه الثاني كل من يعتني بنا روحياً وجسدياً.
أهَّلنا الرب جميعاً لنقتدي بالسامري الصالح لنستحق أن ننال الطوبى التي أعطاها الرب «للرحماء لأنهم يرحمون» (مت5: 7) آمين.